العراق المقاوم
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموصل .. دور تاريخي يتكرّر

اذهب الى الأسفل

الموصل .. دور تاريخي يتكرّر Empty الموصل .. دور تاريخي يتكرّر

مُساهمة من طرف عزالدين بن حسين القوطالي الأربعاء 12 مارس 2008 - 19:50

الموصل .. دور تاريخي يتكرر

بقلم : ربيع الحافظ

alhafidh@hotmail.com


معهد المشرق العربي


في هذه الأيام يتحشد جيش الاحتلال الأمريكي ومليشيات الحكومة الطائفية والبيشمركة الكردية استعداداً للهجوم على مدينة الموصل. عنوان المهمة هو القضاء على القاعدة، وإذا عُلم أن عمليات القاعدة لم تتجاوز 3% من مجموع عمليات المقاومة، عُرف لمقاتلة من ذاهبون هؤلاء.

المعركة تعد حاسمة لأسباب: فالمدينة التي يشكل العرب السنة نسبة 92% تمثل العمق العربي السني الأكبر للمقاومة بعد العاصمة بغداد، وهي المدينة التي يرفض أبناؤها الانخراط في الأجهزة الأمنية التي أنشأها المحتل، والتي يمثل موقعها الجغرافي عقبة في طريق المشروع الانفصالي الكردي، كما تمثل أهمية في الموازنات الاستراتيجية الإقليمية التاريخية التي بدأت الحياة تدب فيها من جديد.

يكتنف الموصل أكثر من سيناريو؛ فهي بين إخضاع قسري يتبعه ترويض فكري وثقافي وإغراءات اقتصادية، وبين "تكريد" يطمس هويتها العربية ويضم قراها وساحلها الشرقي إلى "جغرافيا كردستان"، وبين تفجير لسدها وإغراقها وصولاً إلى إخلال جيوستاتي في المنطقة لا عودة فيه وفتح الطريق أمام الدولة الكردية. السيناريو الأخير خرج من دائرة الإشاعات إلى دائرة الوقائع، وقد خصصت محافظة المدينة تحت ضغط الأهالي قوة أمنية لحماية السد إثر تفجير شاحنة بالقرب منه.

الأوزار السياسية والثقافية التي تحمّلها حكومة الاحتلال للموصل عشية الذكرى الخامسة للاحتلال الأمريكي – الإيراني المزدوج هي إعادة إنتاج للأوزار التي حمّلها إياها المحتل الإنكليزي، واتهامات "الميس" بيل (السياسية الإنكليزية ونظيرة بول بريمير) للموصل وضجرها من "شغب" أهلها وامتدادهم العروبي، هذه الاتهامات تعود اليوم بصياغات جديدة.

عصيان الموصل في وجه الاحتلال وإشعالها لفتيل المقاومة واحتضانها لها وتغذيتها لشرايينها ليست ظاهرة أوجدها لجوء مئات من عناصر القاعدة إليها كما يصور إعلام الدولة المحتلة. الظاهرة لها جذورها ومعطياتها، ولابد من إطلالة على الماضي القريب.

كانت محاولات العرب للحصول على تنازلات سياسية من الدولة العثمانية قد قطعت شوطاً كبيراً مع مطلع القرن العشرين، لكن أبعد ما ذهب إليه السواد الأعظم من العرب (السنة) كان حكماً ذاتياً عربياً ضمن الدولة العثمانية، وإصلاحات تمكن الدولة المتعبة من التماسك أمام التهديدات الأوربية، وتحفظ للعرب مركزاً في النظام العالمي الذي كانت الدولة العثمانية جزءاً مهماً منه. قادت هذه المطالب كوكبة من العلماء والمفكرين من بينهم محمود شكري الآلوسي في العراق، وجمال الدين القاسمي في سوريا، ومحمد رشيد رضا ومحمد عبده في مصر، وعبد العزيز الثعالبي في تونس، وشكيب أرسلان في لبنان.

في عام 1913 تأسست "جمعية العهد" السرية في مدينة حلب (الشقيقة الإقليمية التوأم للموصل)، وكانت (.. تطمح إلى حالة من الحكم الذاتي للعرب ضمن إطار الدولة العثمانية، وضمت ما لا يقل عن 315 ضابطاً عراقياً من أصل 490 ضابطاً عربياً كانوا يعيشون في اسطنبول) (1). ولما (.. كان العنصر العراقي أكثر العناصر في الجيش العثماني، لذا كانت له قوة في مجالس الجمعية، وأنشأ لها فروعاً في بغداد والموصل)(2). ونظراً لأن (.. الغالبية العظمى من الضباط العراقيين في الجيش العثماني كانوا من سنة بغداد أو من النصف الشمالي من البلاد فقد كان للسنة الهيمنة المطلقة في جمعية العهد)، حيث أن الشيعة قاطعوا التعليم في مؤسسات الدولة العثمانية بأوامر من الحوزة على اعتبار أن الحكومات السنية غير مشروعة.

بعد خسارة الدولة العثمانية ووقوع البلاد العربية تحت الاحتلال الإنكليزي، اتجه الضباط إلى إثارة الناس ضد المحتل. لم يكن المستوى الثقافي العام عاملاً مواتياً، فحماس رجل الريف لم يذهب به أبعد من رغبة في إخراج محتل يختلف معه في الدين والعادات والمظهر، ولم تنتهِ إلى مسامعه أنباء ثورات الشعوب وحروب الاستقلال التي اجتاحت العالم في تلك الحقبة، ولم يطّلع على أساليب المجتمعات الحديثة في انتزاع حقوقها.

كان الأفندية (مثقفو السلك السياسي والعسكري العثماني السابق) حلقة وصل بين العالم الخارجي والمجتمع المحلي (..وكانت لهم مقدرة غير قليلة على إثارة الناس وإشاعة التذمر فيهم، فقد كانوا يطالعون الصحف ولهم اطلاع سابق على شؤون السياسة في العالم)(3)، ونقلوا صور التحرر العالمي إلى الداخل.

شهدت تلك الفترة تعاوناً بين الأفندية وخطباء المساجد ( .. فكان الأفندية يلتقطون الأخبار السياسية من الصحف .. ومن بعض المصادر الأخرى التي هم أقدر على الاتصال بها، فيوصلون تلك الأخبار إلى الملائية (الملالي) ـ سنة وشيعة ـ ويقوم الملائية من جانبهم بنشرها في أوساط الجماهير بغية إثارتهم على الإنكليز)(4). وتعترف الميس بيل بأن تأثير الأفندية جاوز المناطق ذات الأغلبية السنية و ( .. أن المتطرفين منهم قصدوا مدن النجف والشامية)(5)، وهي فترة توجيه سياسي محلي.

على الصعيد الخارجي كانت الموصل الميناء الثقافي الذي ترسو فيه النتاجات الفكرية القادمة من حلب (التوأم السياسي الإقليمي التاريخي للموصل)، وكانت لجريدة "العُقاب" التي كانت تصدرها جمعية العهد وتهرّب إلى الموصل ومنها إلى باقي أنحاء العراق، كان لها الدور المهم في إثارة الحماس، و (..أصبحت قراءة الجرائد في المجالس والمضايف من الأمور المألوفة عند الناس، لاسيما في الفرات الأوسط، حيث يقوم (الملاّ) بقراءة الجريدة فيصغي الحاضرون ويعلقون عليها)(6).

تمتعت الموصل بمؤهلات مكنتها من لعب دور حلقة الوصل مع العمق العربي والجوار الإسلامي، من بينها: (..أنها كانت تضم بين سكانها نسبة عالية من الأفندية، فهي تأتي بالدرجة الثانية بعد بغداد، ومن بينها موقعها القريب من تركيا)(7) ، و (.. تأسست فيها جمعية سرية بالتنسيق مع تركيا كان يقوم عليها أحد أغنيائها الذي اشترى (500) قطعة سلاح استعداداً ليوم الثورة على الإنكليز)(8).

تقول "الميس" بيل: (.. في 21/4/1920 [أي 4 أشهر قبل اشتعال ثورة العشرين] وصل إلى الموصل أول دفعة من العراقيين الذين كانوا في سوريا، فدشنت فترة مليئة بالشغب والفتن في الموصل، فقد عقدت الاجتماعات الوطنية وعلقت على الجدران في الليل الإعلانات المناوئة للبريطانيين، كما ازدادت الغارات على خطوط مواصلاتنا)(9).

كان ذلك التوجيه الثقافي والفكري المسودة الأولى للمعجم السياسي الحديث، وصياغة أولى لمفردات الاستقلال والسيادة التي امتزجت كيمياؤها بالشخصية العربية السنية، كما كان الفتيل الذي أشعل الصراع ضد الاحتلال، ويعزى لضباط جمعية العهد في مدينة دير الزور ( يومئذ مدينة عراقية) إثارة الحمية لدى عشائر الفرات الأعلى ومدنه الفلوجة والرمادي التي كانت ساحة لإرهاصات ثورة العشرين قبل أن يطلق الشيخ ضاري آل محمود في 12-8-1920 رصاصاته على الكولونيل الانكليزي ليجمن معلناً اشتعال الثورة، لتقوم عشائر زوبع من غدها بمهاجمة الانكليز، والشيخ ضاري هو جد الشيخ حارث الضاري وخال الرئيسين عبد السلام وعبد الرحمن عارف.

استمرت معارضة "الأفندية" للاحتلال الإنكليزي حتى بعد تنصيب فيصل ملكاً (.. ففي وقت متأخر في تموز 1923، صيغت عريضة حملت أختام 400 شخص تناشد الخليفة العثماني إنقاذ العراق من الأجانب ومن فيصل وأبيه الذي جاء ليسيطر على المسلمين بالمحاربة في صفوف الحلفاء)(10). تشبث العرب السنة بهذه الاستراتيجية ريبة وتوجساً من المجهول الذي ستجلبه سايكس – بيكو للمنطقة برمتها (كتوجسهم من الشرق الأوسط الجديد)، رغم الانعطاف الطوراني في الدولة العثمانية بعد انقلاب عام 1908 الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني، و (.. كانت خطب الجمعة في جوامع بغداد استمرت حتى العام 1924 تدعو المصلين إلى الدعاء للخليفة العثماني..على الرغم من احتجاجات فيصل بأن إبقاء الخطبة بهذه الصيغة يشكل إهانة له)(11).

البيوتات العربية السنية التي سجلت حضوراً سياسياً وعسكرياً عالياً في تلك الفترة المصيرية من تاريخ العراق دفاعاً عن العروبة والإسلام وتحدياً للنظام العالمي الجديد آنذاك، هذه البيوتات هي التي كان لها ـ بشكل طبيعي ـ حظوة في مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية، بل إن الوصول إلى هذه المواقع ـ لاسيما الجيش ـ أصبح تقليداً وطموحاً عند الشاب والأبوين في المدن والعشائر العربية السنية ومنها الموصل التي فيها اليوم أكثر من 40 ألف ضابط، الأمر الذي تبلور فيما بعد ليشكل الكتل السياسية والعسكرية الإسلامية والعروبية التي تركت بصمتها على شخصية الدولة العراقية الحديثة.

الفروسية والذود عن الهوية التي يبديها الموصليون اليوم هي سليلة ذلك النسب الوطني والاجتماعي السامق. هذه الروح لا مكانة لها في "العراق الجديد" بعد حرب 2003، كما في ألمانيا الجديدة الخارجة من الحرب العالمية الثانية، التي اعتبر الحلفاء فروسية شعبها ورفعة هامته واعتزازه مشتقات للنازية ينبغي اجتثاثها، واليوم فروسية العراقي "قاعدة" وإسلامه "تكفيراً" ووطنيته "بعثاً". إنها معركة أنساب دينية واجتماعية وسياسية يقودها الفرس المستعربون والشيعة العرب "المتفرسون" الذين استوطنوا إيران وأشرفوا بالأمس القريب على تعذيب الأسرى العراقيين. روح الفروسية هذه هي ما يفسر احتقار الموصليين لما يسمى بـ "الجيش العراقي الجديد" والشرطة ورفضهم الانضمام إليهما رغم الثمن السياسي الباهض واشتداد الفاقة.

ليس بمقدور الموصليين استقبال معركة الحكومة الطائفية القادمة بمعزل عن الواقع الماضي والآني معاً، فأنباء ميليشياتها في الأعظمية وديالى وغيرهما سبقت وصولها، كل شيء حولهم يذكرهم بجولات الصفوييين وآخرها حصارهم في منتصف القرن الثامن عشر، ولا فرق بين أنباء اليوم وأنباء الأمس التي ترويها الجدات، والقوم هم القوم.

سراديب الموصليين التي لا زالوا يخزنون فيها الحبوب والأطعمة المجففة (أو المؤنة) تذكار لفنونهم في مواجهة الحصار. قصة هذه السراديب يعرفها كل طفل، وفي أسماء أحيائهم دلالات على استراتيجياتهم في الأزمات، فباب البِيض (بكسر الباء أي النساء) هو الحصن الذي جُمعت فيه حرائر المدينة إبان الحصار تحسباً لانكسار الأسوار وغدر الفرس وهتك الأعراض بعدما عاثوا في قراها الفساد، و"الثلمي" أسم للحي الذي أحدث فيه الفرس ثلمة (ثغرة) في أسوار المدينة، والجوامع التي بنوها ابتهاجاً بفشل الحصار عامرة بالمصلين تحكي بصمتٍ غارات الفرس على العراق وأشهرها جامع الرابعية نسبة إلى رابعة الجليلي.

لازالت مقاومة العرب السنة ـ مثلما كانت بالأمس ـ محط إعجاب القبائل العربية الشيعية في الفرات الأوسط التي ثارت في ثورة العشرين، في حين لم يشترك شيعة دجلة، وهو دليل ـ كما يؤكد عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ـ على أن ثورة الفرات الأوسط كانت ثورة نخوة ولم تكن ثورة حوزة وإلا لثار جميع الشيعة، بل إن الحوزة هددت عرباً شيعة (جعفر أبو التمن وعبد الواحد سُكَر) بكف العون المالي إلى الثوار العرب السنة. الفرق هو أن قبائل الفرات كانت بالأمس أبعد عن قبضة إيران وأقرب إلى فطرة الصحراء.

هذه الحقائق سهلة متاحة في مصادر تاريخية عراقية، لكنها غابت عن مناهج التربية للدولة العراقية منذ نشوئها في 1921 وحتى سقوطها في 2003، وهي اليوم مجد سائب تدعيه الحوزة وهي التي كشفت وثائق الخارجية البريطانية أنها كانت على اتصال مع الإنكليز قبل احتلالهم للعراق في 1915 وبالتحديد مع بيرسي كوكس (المندوب السامي البريطاني فيما بعد) الذي كان يقدم لها "الهدايا المالية"، في صورة تكررت بعد أقل من قرن واحد ـ أمام العدسات هذه المرة ـ مع الأمريكان وحاكمهم المدني بول بريمر وعلاقة المودة والارتياح مع السيستاني.

إرهاصات معركة الموصل لم تحمل بشائر إعلامية، فالإعلام الذي نقل صورة خجولة تتعارض مع روايات الناس المحليين عن انفجار الزنجيلّي المروع، والإعلام الذي أصرّ طوال سني الاحتلال ـ مردداً أقوال العوام رغم الإحصاءات العلمية ـ على أن العرب السنة أقلية في العراق حتى صدق الناس، والإعلام الذي رسخ مصطلح "المنطقة الغربية" كحدود جغرافية للعرب السنة ومقاومتهم، والإعلام الذي انصرف إلى النقل المباشر لحفلات الطرب واستهل نشراته الرئيسية بأحداث تشاد في وقت تُدك فيه المدن العربية بالطائرات الأمريكية والإسرائيلية، هذا الإعلام لا يرتجى منه الكثير، وسيعلو فيه صوت الغانيات على استغاثات الأمهات، بل سيُفجّر سد الموصل وتضيع الحقيقة بين ملقٍ للوم على الاحتلال وآخر على الأكراد وثالث على السد نفسه.

بقي سؤال: كم تراجع الإعلام العربي عما كان عليه قبل نصف قرن؟ بأي المقاييس نقيس الفرق بين تغطية الإعلام لحرب تحرير الجزائر وحرب تحرير العراق؟ أولسنا نتذكر بطولات الجزائريين حتى هذه اللحظة، وكيف استقبلت القاهرة وبغداد ودمشق قادة المقاومة الجزائرية، وكيف أنشدت بغداد لبيروت في 1958، وبيروت للقدس في 1967 وأنشد العرب لمصر في 1956، وكيف تدافع التلاميذ للتبرع لصالح المجهود الحربي؟

الذي يتأمل كيف تحول الإعلام العربي من رسالة إلى وظيفة، ومن حقائق إلى مغالطات، وكيف تُقتل الأيام والأشهر والسنون بتافه الكلام، وتدار النقاشات بأدنى الجهود وأبعدها عن وثائق التاريخ المتاحة بضربة زر على جهاز الحاسوب، وكيف تزدحم الشاشات بالدعايات التي تمجد المحتل لأنها تجلب مورداً سخياً، وكيف منحت الجزائر وسام المليون شهيد ويمنح العراق وسام المليون قتيل، من يتأمل ذلك يدرك حجم ونوع التراجع الإعلامي، ويدرك أن معركة الموصل وما هو أكبر منها يمكن أن يمر بين الرأي والرأي الآخر
عزالدين بن حسين القوطالي
عزالدين بن حسين القوطالي
مساعد المدير
مساعد المدير

ذكر
عدد الرسائل : 268
تاريخ التسجيل : 16/12/2006

http://yahoo.fr

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى